مقالات فكري

حامل الدعوة والزاد المبلّغ للغاية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

‘إن حمل الدعوة عمل الأنبياء والرسل ومن ورثهم من العلماء العاملين الربانيين. فالنبوة والرسالة هبة من الله لمن يصطفيهم من خلقه فيهيئهم لذلك ويعصمهم عن الخطأ والزلل ومن كل ما يعيب من خلق وخلق ﴿لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾، ومن الصفات الواجبة في حقهم الصدق والأمانة والتبليغ والفطانة، ويستحيل في حقهم الكذب والخيانة والكتمان والبلادة، وكذلك من صفاتهم الصبر والثبات والعزم والتوكل على الله حتى يبلغوا ما يوحى إليهم من ربهم لتغيير الواقع إلى نقيض ما هو عليه من الظلم والجهل والانحطاط، ويخرجوا الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ليصلوا بالناس إلى الغاية التي خلقهم الله من أجلها ألا وهي العبادة الخالصة لله تعالى إذ يقول الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾. وحمل الدعوة من أعظم العبادات وأجلّها، وعلى حامل الدعوة أن يتحلى بالصفات الواجبة للرسل الذين هم أسوته حتى يكون أهلا لهذه المهمة العظيمة؛ يلتزم الصدق في قوله وفعله حتى يكون نبراسا يقتدى به في محيطه، فالصدق من صفات المؤمنين بل لا يجتمع الإيمان والكذب في قلب واحد، فالمؤمن لا يكذب وحامل الدعوة من باب أولى، وفي التنزيل: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾. وكذلك مما يجب عليه أن يتحلى به الأمانة وأهمها التكاليف الشرعية إذ هي المعنية في أغلب أقوال المفسرين في قوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾، فالالتزام بالشرع في كل ما يقوم به من عمل كبير أو صغير واجب على كل مسلم، وحامل الدعوة من باب أولى لكونه قدوة يسترشد به، ويجب عليه أن يجعل نصب عينيه قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ وعلى حامل الدعوة أن يبلغ الفكر المستنير الذي يحمله ويرسم الخط المستقيم أمام الخطوط المعوجة لينسف الأفكار الهدامة التي تحول دون نهوض الأمة وتوحيدها. ويتطلب ذلك من حامل الدعوة أن يكون كيسا فطنا ليس بالخب ولا الخب يخدعه، مدركا لما يجري حوله، نشطا بارزا في محيطه، مبصّرا الناس بأفكاره، داعية بحاله قبل مقاله، يهتم بأمر أمته ويجهد على نهضتها ويرنو ببصره إلى ما هنالك حيث رضوان الله الأكبر، متوكلا على الله مستعينا به، همه الله وأمته، مهتديا بقول النبي ﷺ: «مَنْ أَصْبَحَ وَهَمُّهُ غَيْرُ اللهِ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ، وَمَنْ لَمْ يَهْتَمَّ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ»، ويعلم يقينا أن كل مسلم على ثغرة من ثغور الإسلام فلا يؤتين من قبله، وعلى حامل الدعوة أن يكون ذا وعي سياسي، والوعي السياسي هو النظرة إلى العالم من زاوية خاصة وهي زاوية لا إله إلا الله محمد رسول الله، أي من زاوية العقيدة الإسلامية، فالنظرة إلى العالم من غير زاوية خاصة تعتبر سطحية، وحتى يتكون الوعي السياسي لا بد من أن تكون النظرة إلى العالم كله، وأن تكون من زاوية خاصة، وهي بالنسبة للمسلم العقيدة الإسلامية.

أما لماذا الدعوة وما أهميتها وكيف تحمل؟ فهذا ما سأحاول الإجابة عليه مستعينا بالله ومتوكلا عليه وهو حسبي وكفى.

أولا: لماذا الدعوة؟ لأن الله عز وجل عندما ختم الأنبياء والرسل وقطع الوحي لم يترك الناس هملاً بل أسند مهمة الأنبياء والرسل إلى خير أمة أخرجت للناس لتقوم بدورها في نشر الهدى وإسعاد البشرية بميراث خير الأنبياء والرسل وخاتمهم ﷺ ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ﴾ أي ومن بلغه القرآن ينذر به، وجعلها أمة تشهد على الخلق يوم القيامة، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ وقال تعالى: ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ﴾، وعليه فلا يعني أن ختم نزول الأنبياء رفع الوصاية عن البشر وتسويد العقل الإنساني. ولا يعني كذلك بلوغ الإنسانية رشدها أن تستقل عن خالقها وتنتقصه الأمر وتحدّ من سلطته إلى الخلق؛ لأن هذا يعني فصل الدين عن الحياة، وهي فلسفة ثبت بالوجه القطعي فشلها على الكرة الأرضية في العصر الراهن، فقد ملأت الأرض جورا وفسادا وشقاء وتعاسة للإنسان حيثما حل وأنى وجد، فعلاقة الإنسان بالإنسان لا بد أن ترجع إلى خالق الإنسان ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾، ﴿قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾.

إن العالم الذي نعيش فيه اليوم عالم يعلن الحرب على الله وعلى كتابه وعلى رسوله وعلى الإسلام والمسلمين جملة وتفصيلا، وهي حرب أضيفت إلى إراقة الدماء هيمنة ثقافية وهي أشد وأكبر من القتل، وها هي الأرض المباركة ومقدساتها تباد وتمارس فيها أبشع الجرائم وحكام المسلمين قلوبهم أقسى من قلوب الشياطين، بل هم جزء من الهجمة الصهيونية الحاقدة على الإسلام، ولكن الأيام دول.

والقانون الفيزيائي المشهور ينص على أن لكل فعل رد فعل مساويا له في القوة ومعاكسا له في الاتجاه. وهو ما يفرض على المسلمين أن تكون ثورتهم الفكرية على مستوى هذه الهجمة الصهيونية الجديدة بكل أبعادها. وعقيدة المسلمين قادرة وكافية لخلق جيل مؤهل لهذه المهمة الجسيمة وإن كانت مهمة تنوء بها الجبال! وثورة المسلمين لا بد أن تكون عاصفة تحرق الفساد في العالم كله، وتنير الطريق لتهدي من في الأرض لتعود إلى هدي ربها فلا تقوم على الانتقام بل تقوم على نشر الهدى بين الأنام وتحرق كل من يعترض سبيلها اقتداء بسيد الخلق الأسوة الحسنة امتثالا لقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً﴾، فلنسمع منه ﷺ وهو يجيب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين سألته: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: «لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ؛ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً». ها هي طريق الدعوة فما دام الهدف هو هداية الناس فيبقى الهدف ماثلا أمام عيني حامل الدعوة وهو هداية الناس وليس الانتقام «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ، وَلَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً». وحامل الدعوة يبذل ماله ونفسه لهداية الناس ويحتسب ما يتعرض إليه من أذى لله المنتقم الجبار. ولا يهدد بالانتقام قط، بل يردد ما كان المصطفى ﷺ يردده «اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي، فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»، وقد توجه رسول الله ﷺ إلى ربه متضرعا بالدعاء، ولعل فيه ما يهدي حملة الدعوة إلى ترسيخ طريق الدعوة في نفوسهم «اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي وَقِلَّةَ حِيلَتِي وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي، إِلَى بِعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَوْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الْكَرِيمِ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ بِي غَضَبُكَ أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ»، فهلا جعلنا رسول الله ﷺ قدوتنا ووطنا أنفسنا لنقتدي به في كيفية حمل الدعوة للناس كافة؟ وهلا وجهنا ما فينا من طاقة لنتحمل كل مخالفة من أمتنا لأننا ندعو بشرا ولا ندعو ملائكة؟ وأما الأساليب فقد أفصح عنها القرآن في قوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾، والخطاب في الآية الكريمة يشمل ثلاثة أساليب:

الأول: الحكمة وهي قرع الحجة بالحجة، وهذا الأسلوب لصنف من الناس يستعمل عقله ويحكمه في كل شيء. وهؤلاء لا ينفع معهم غير قرع الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، ولكن التعبير القرآني (بالحكمة) له دلالة أكبر من قرع الحجة بالحجة وهو ألا تعمل على إثارة حفيظة من تسعى لهدايته حتى لا يلجأ إلى المكابرة والعناد. وقديما قالوا “الكفر عناد”! والحكمة هي وضع الشيء في موضعه.

والأسلوب الثاني: الموعظة الحسنة وهي التذكير الجميل بالعواقب، قال ابن سيده: “هو تذكيرك الإنسان بما يلين قلبه من ثواب وعقاب”. فالموعظة هي إثارة العواطف لتصل إلى شغاف القلوب، وهي النصيحة. وفي المثل يقال، “السعيد من وعظ بغيره والشقي من اتعظ به غيره”، وهذا الأسلوب يستعمل لعامة الناس بتذكيرهم بالجنة والنار والخوف من العزيز الجبار.

والأسلوب الثالث: هو لمن يدين بغير الإسلام ﴿وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ لأن الجدل في اللغة هو شدة الخصومة. وجدله أي غلبه وطرحه أرضا، وجادله أي خاصمه. وفي الحديث «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ» أي الجدل على الباطل وطلب المغالبة به لإظهار الحق. والجدل مقابلة الحجة بالحجة، والمجادلة المناظرة والمخاصمة والجدل لإظهار الحق محمود لقوله تعالى: ﴿وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾.

إن الصراع الفكري والكفاح السياسي يعني التصادم بين أبناء الأمة، وحتى تتجنب الآثار السلبية من هذا التصادم يتجنب حامل الدعوة الجدل العقيم ويسير على طريق رسم الخط المستقيم بجانب الخط الأعوج. ويكتفي بذلك حتى لا يؤدي الجدل إلى الأنانية التي تعمي وتصم عن الحقيقة، فيكتفي بشرح أفكاره ومفاهيمه التي يتبناها، ويبين ما في الأفكار الأخرى من خطأ وزيف وما فيها من باطل وما في نتائجها من أخطار، وحينئذ تنصرف الأمة عنها وتتجه إلى ثقافة الدعوة وفكرها التي هي في واقعها مبدأ الأمة الأصلي، بل ينصرف عنها (أي الأفكار الأخرى) أصحابُها بعد أن يظهر لهم زيفها إذا كانوا مخلصين واعين نزيهين. وهنا حسن التأتي له دور كبير في كسب ود أصحاب الأفكار الأخرى وعدم خلق شحناء وبغضاء وعداوة معهم بالابتعاد عن شخصنة النقاش سيرا على قاعدة (الخلاف لا يفسد للود قضية)، وتناقض الأفكار المطروحة ربما يؤدي إلى صراع بين أفراد الأمة وقد يؤدي إلى تفككها فيذهب ريحها، وحامل الدعوة الحصيف هو الذي يعمل على لم شمل الأمة على مبدئها بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وهي هدي القرآن الكريم ليلتزم بها حامل الدعوة.

ومن الأساليب المحببة في النقاش ألا يرفع حامل الدعوة صوته، وأن يحسن الاستماع للطرف الآخر، وأن يتخير نقطة أساسية أو جوهرية ويحصر البحث فيها، ولا يحاول أن يتتبع كل أخطاء الطرف الآخر ليرد عليها وكأنه في حلبة صراع.

أما كيفية حمل الدعوة فبالتركيز على الأمة لتكون هي حاملة الدعوة، وهي قادرة على إنقاذ العالم مهما كانت قوة الدول المسيطرة عليه. إن طبيعة الإسلام إذا حل من الإنسان في مركز العقيدة ووجدت بذرته في النفس البشرية فإنها تحوله إلى شخص أقوى من القوة وأسمى من السمو وأعلى كعبا من الفرسان والحكماء والمفكرين، والدليل على ذلك كيف نقلت العقيدة القبائل العربية المتناحرة إلى أمة عظيمة اقتعدت الذرى وتبوأت القمة عشرة قرون وهي الدولة الأولى في العالم. فإن لتأثير الإسلام سحراً يتجاوز البصر والبصيرة والإدراك.

إن الأمة الإسلامية أقوى من قوى الشر مهما اجتمعت لأمرين اثنين:

الأول: أنها تملك فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة لا يملكها أحد غيرها، وهي فكرة ديناميكية جبارة، وهي في الوقت نفسه تعطي الصورة الحقيقية عن العالم وعن الناس وعن الدول وعن المجتمعات، وتعطي في الوقت نفسه الطريقة الصحيحة للتغلب على دول الكفر مهما كانت. ولذلك ليس غريبا على من يملك هذه الفكرة الكلية أن تكون قواه قوى لا تغلب.

الأمر الثاني: إن الأمة الإسلامية تملك قوة مادية جبارة هائلة تكفي لأن يكون النصر مكفولا لها مهما كان وضع الصراع الذي تدخل فيه ومهما كانت القوى التي تصارعها، ولا توجد قوة في الدنيا في مستواها، فهي تملك ثروات لا تنضب ورجالا شجعانا لا نظير لهم في العدد والقوة، وثروة فكرية لا تهزم أبدا يعجز أي فكر وضعي أن يصمد أمامها، وهي تفهم معنى السياسة والحرب، وتعرف كيف تصارع قوى الكفر، وكيف تزلزل عروش الطغاة، وتاريخها شاهد عيان على ذلك.

فالموضوع هو الأمة الإسلامية متى تحركت كان التحرير، ومتى اندفعت كان الإنقاذ، ومتى زمجرت خر الجبابرة ساجدين. ولذلك يجب ألا يغيب عن البال أن الأمة الإسلامية هي موضوع البحث، فهي تعرف واجبها نحو نفسها ومهمتها تجاه بني الإنسان، فتحررها يكمن في ثقتها بعقيدتها وفي وحدتها وإخلاصها لدينها ولربها.

ونحن في هذه الأيام وقد مضى على حرب يهود على غزة ما يقارب السبعة أشهر وفيها دروس وعبر؛ كيف فعلت ثلة من المسلمين في غزة فعلتها في اليوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي في جيش يشاع عنه أنه لا يقهر! ولا يوجد أي تقارب أو مقارنة في القوة المادية بينهما، وهذه الثلة لا تدعو لتحرير فلسطين لإقامة دولة إسلامية، بل تسمي نفسها حركة تحرر وطني فما بالك لو كانت هذه الثلة مقدمة لتحرك الأمة الإسلامية؟

ومن الدروس كيف تجمع الكفر قاطبة؛ أمريكا وأوروبا وعملاؤهم حكام الدول العربية، ومطالبة يهود بالإجهاز على هذه الثلة واستئصالها، ومهما كانت النتائج فإن الدروس والعبر ستبقى على مدى الدهر، ولذلك فإن العمل لتحرر الأمة من هيمنة الكافر المستعمر عليها لا يكون منفصلا عن إعداد الأمة لتقوم بواجبها تجاه البشرية، فهذه هي كيفية حمل الدعوة وهو العمل في الأمة لتحمل عقيدتها للناس كافة.

﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾

كتبه صادق محمود