عندما يقوم الدكتور شوقي علام مفتي الديار المصرية بزيارة باريس ليلتقي بأعضاء مجلس الشيوخ الفرنسي فمن المتوقع جدًا أن يركز في حديثه إليهم عن مفهوم الجهاد الذي ظل لقرون طويلة الطريقة العملية لنشر الإسلام في ربوع العالم، تقوم به الدولة الإسلامية بالكيفية الصحيحة التي جاءت في القرآن وبينها المصطفى صلى الله عليه وسلم وسار عليها الخلفاء الراشدون من بعده، وظلت عمل الخلافة الإسلامية الأصلي لقرون تلت، هذا الحكم الشرعي الذي أرعب أوروبا عندما رأت جيوش المسلمين تجتاح غرب وشرق أوروبا لتقف عند أسوار فينا شرقًا وسهول فرنسا من جهة الغرب.
قد يكون من أسماهم المفتي بالمتطرفين قد ضيقوا فعلًا مفهوم الجهاد وفسروه بأنه مجرد القتل والذبح، وإن كان القتل جزءاً منه ولكنه ليس الغاية من الجهاد، ولكن المفتي بتعريفاته الجديدة للجهاد التي لم يسبقه أحدٌ لها، قد ضيق بل حرّف وبدل مفهوم الجهاد، إذ يعرفه بأنه هو “الجهد البشري الساعي إلى تحسين حياة الفرد والمجتمع والدفاع عن الأوطان تحت راية الدولة، فإحياء الناس وعمارة الأرض هو النموذج الإلهي للجهاد”، فهو جهاد ليس فيه قتل ولا قتال. كما عاد المفتي ليؤكد المفهوم نفسه في بيان أصدرته دار الإفتاء السبت 2015/4/25م.
بالطبع لا يستطيع المفتي أن يبرز مفهوم الجهاد كما تدل عليه نصوص القرآن وكما تعلمه في الأزهر وقرأ عنه في كتب العلماء الربانيين الثقات، خاصةً وهو بدرجة وزير في نظام علماني عطل الجهاد كما عطل غيره من الأحكام الشرعية، نظام علماني أعلن قائده منذ وقت قريب أننا بحاجة لثورة دينية على نصوص تم تقديسها لقرون تعادي الدنيا كلها وهو يعني النصوص المتعلقة بالجهاد والقتال، في نظام تعقد مؤسساته الدينية مؤتمرًا تلو مؤتمر تهاجم فيه ركنين ركينين في الإسلام هما الخلافة والجهاد تحت شعار محاربة الإرهاب، في نظام يُعَدّ هذه الأيام رأسَ حربة في الحرب العالمية على الإرهاب، والذي دعا في مؤتمر القمة العربية الأخير في شرم الشيخ لتشكيل قوة عربية مشتركة للحرب على الإرهاب، فأنى له أن يخرج عن الخط المرسوم؟!. وقد رضي أن يكون بهذا المنصب في ظل نظام لا يحكم بشرع الله، بل يكرس وسائل إعلامه المختلفة لشن هجوم شديد على السنة ورجالها الذين قيّضهم الله لجمعها وتنقيحها وتبويبها كالبخاري ومسلم، تحت شعار مضلل وهو تجديد الخطاب الديني!!
ونحن هنا لن نخوض نقاشًا في تفنيد فرية أن الجهاد شُرع للدفاع عن الأوطان فقط، فهي من الأفكار الطارئة على الفكر الإسلامي ولم يقل بها أحد من المتقدمين من علماء الأمة، وإنما هي من لوثات الغزو الفكري والثقافي لبلاد المسلمين في القرنين الأخيرين، ولكننا سنقول لفضيلته: إذا كانت علة القتال في الإسلام هي العدوان كما تقول، فلماذا لم تطالب من تعتبرهم ولاة الأمور بإعلان الجهاد لرد عدوان يهود على فلسطين وتدنيسهم للمسجد الأقصى، إلا إذا كنت تراهم غير معتدين أو أصحاب حق، أو جيرانًا وأصدقاء تربطنا بهم علاقة حسن جوار، أو أنك ترى أن لا شأن لأهل مصر بما يجري لأهل فلسطين؟! أليس ما تقوم به أمريكا في العراق والشام عدوانًا يجب أن يُرَدّ؟! أم أنكم لا ترون الأطفال والنساء والشيوخ الذين تقتلهم أمريكا وحلفها اللعين؟!.
إن الجهاد كما عرفه الفقهاء المعتبرون هو بذل الوسع في القتال في سبيل الله مباشرة أو معاونة بمال أو رأي أو تكثير سواد أو غير ذلك، فالقتال لإعلاء كلمة الله هو الجهاد. وهو فرض كفاية ابتداءً، وفرض عين إن هجم العدو، ومعنى كون الجهاد فرض كفاية ابتداءً هو يعني أن نبدأ بقتال العدو وإن لم يبدأ، وإن لم يقم بالقتال ابتداءً أحد في زمن ما أثم كل المسلمين بتركه.
وإن أدلة الجهاد أدلة عامة ومطلقة تشمل الحرب الدفاعية وتشمل مبادأة العدو بالقتال، تشمل الحرب المحدودة، والحرب غير المحدودة، والحرب الوقائية، وغير ذلك فهي تشمل كل أنواع قتال العدو لعمومها وإطلاقها، فتخصيصها بالحرب الدفاعية، أو تقييدها بأن تكون حربًا دفاعيةً لا هجوميةً كما يقول المفتي بأنه الدفاع عن الأوطان تحت راية الدولة، يحتاج إلى نص يخصصها أو إلى نص يقيدها، ولم يرد أي نص يخصصها أو يقيدها لا من الكتاب ولا من السنة فتبقى على عمومها تشمل كل حرب من الحروب وكل قتال للعدو.
ولأن الأمة الإسلامية اليوم ليس لها دولة حقيقية تطبق الإسلام في الداخل وتحمله للخارج بالدعوة والجهاد، منذ أن تم القضاء على الدولة الإسلامية دولة الخلافة سنة 1924م، ليقيم الكافر المستعمر مكانها دولًا ودويلات كرتونية، فقد توقف الجهاد ولم يعد المسلمون يحملون الدعوة الإسلامية للناس من خلاله، بل حتى إن الجهاد لدفع الاعتداء عن الأمة وطرد العدو من بلاد المسلمين المحتلة قد غاب أيضًا وتخلت الدول القائمة اليوم عنه، طالما أمرتها أمريكا بالخضوع والخنوع والرضا بالأمر الواقع؛ فها هي كشمير محتلة من قبل الهند، فهل أعلنت باكستان الجهاد لتحريرها؟ واحتلت العراق من قبل أمريكا فهل أعلنت دولة من تلك الدول الكرتونية الجهاد لتحريرها؟ وما زالت فلسطين محتلةً من قبل يهود وحكام المسلمين كلهم قد تركوها غنيمة ليهود ليرضى عنهم أسيادهم في الغرب الكافر، وتركوا الأمر لأفراد قلائل أو تنظيمات محدودة، وهؤلاء الأفراد وتلك التنظيمات لا يستطيعون ولا بحال من الأحوال إخراج العدو ورد المعتدي، فإمكاناتهم ضعيفة وقدراتهم محدودة، فضلًا عن تسلط تلك الدول الكرتونية على هذه التنظيمات تملي عليها إرادتها بما تمن عليها من أموال وسلاح. ومن هنا فإن الجهاد بشقيه الدفاعي والهجومي غير موجود اليوم ويحتاج بالفعل لدولة بحجم دولة الخلافة الراشدة لتقوم به على وجهه. وتلك الدولة لا بد من تكاتف الجهود لإقامتها بالطريقة الشرعية التي استنبطت من طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في إقامة الدولة بالصراع الفكري والكفاح السياسي وأعمال طلب النصرة.
إن الانسياق وراء هذا التعريف للجهاد من مفتي مصر يعني تعطيل الجهاد وإبطاله، ولا يحل لمسلم أن يقول به إذا أدرك ما يعنيه، وإن ممالأة الغرب ومحاولة إرضائه بالتخلص من حكم شرعي كالجهاد هو كمن يريق العسل لأنه يقال عنه أنه خرء الذباب، والواجب يحتم أخذ الحكم الشرعي كما جاء به النص، وجعل الشارع سبحانه وتعالى وحده هو من يقبح ويحسن وليس قول الغرب أو قول المستشرقين، أو أوامر الحكام والمتنفذين، ولسنا في حاجة للفت النظر إلى الدول الكبرى كيف تحشد قواها لاغتنام الفرصة لمبادأة غيرها بالقتال لنشر دعوتها وفرض سيطرتها، وإنما ندعو إلى فهم آيات القرآن كما جاءت، وكما هي دلالتها العربية والشرعية لا كما يراد منا أن نفهمها لنرضي الغرب وأذنابه في بلادنا.
﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾