مقالات فكري

خواطر إيمانية (6): الحاجة إلى الرسل

الآن، وبعد أن أجبنا عن سؤال “من أين أتيت؟”، وذلك بالدليل القاطع على وجود الله والاستنتاج الصحيح لبعض صفاته، فلنركز على السؤالين الأساسيي  حسب الترتيب الزمني: “لماذا أتيت، وإلى أين أنا ذاهب؟”

الغاية من الحياة ومصيرنا بعدها، هما من القضايا ذات الأهمية القصوى بالنسبة لنا، وفي الوقت نفسه، نعجز تماما عن حل هذه القضايا إذا بحثنا عن أجوبة مباشرة في الإنسان والكون والحياة. بالفعل، فالمادة المحيطة بنا مع تعدد خصائصها، لا تعطينا أدنى معلومة عن الغاية من وجودنا ولا عن المصير الذي سنؤول إليه بعد هذه الحياة. هذا العجز عن الإجابة، سيقودنا إلى الرجوع إلى الذي لا تخفى عنه خافية، لا في الماضي ولا في المستقبل، ولا في معنى الحياة ولا في معنى الموت. فيجب الاتّجاه نحو الله للبحث عن الأجوبة المنشودة، بما أن التاريخ والتجربة الشخصية لكل منّا تظهر أنّ الله لا يخاطب مباشرة كل إنسان، ولكنه يخاطب فقط من اصطفى من البشر، لتكون مهمتهم إيصال رسالته إلى بني البشر أمثالهم. هؤلاء البشر هم الرسل، ونحن في حاجة أكيدة لهم من هذه الزاوية.

ومن ناحية أخرى، استوجب المضي قدما في الحياة على الإنسان مجابهة العديد من المشاكل وإيجاد حلول عملية لها ليضعها حيز التطبيق. والعديد من هذه المشاكل ستدرس وتحلل بطرق مختلفة حسب وجهة النظر في الحياة المتبنّاة من طرف الأفراد. والحلول المختارة ستكون غالبا متناقضة تماما. وتفسير هذا التناقض سنبحث عنه في ذات طبيعة الإنسان.

الإنسان وُهِب عقل، وطاقة حيوية بمثابة محرك يدفعه للنّشاط. وهذه الطاقة الحيوية ذاتها تتجزأ إلى حاجات وغرائز. وهذه الحاجات والغرائز تتطلب طبيعيا الإشباع. في حالة عدم إشباع حاجة يتعرض الإنسان إلى الموت. وهذا صحيح بالنسبة للحاجات العضوية والتي هي الأكل والتنفس والنوم. ومن ناحية أخرى، يؤدي عدم إشباع الغرائز إلى الشعور بعدم التوازن والقلق، ولكنه لا يؤدي إلى الموت. فالغرائز ثلاثة أنواع وهي ثلاثة فقط: غريزة حب البقاء وغريزة النوع وغريزة التدين. أمّا غريزة حب البقاء  فهي ذلك السعي من الإنسان للمحافظة على حياته والهروب من الموت، ومن مظاهرها العادية في حياتنا اليومية نجد ردة الفعل تجاه شيء قادم بقوة للاصطدام بك، والسعي إلى الرفاهية والتعلق بها لنسيان الأشياء المزعجة كالموت مثلا، وحبّ السلطة الذي يمنح شعورا وهميا بعدم الاكتراث أو الخوف من الموت.

وغريزة النوع تدفع الفرد للبحث عن العيش في جماعة وما يترتب عنه، وهذه الغريزة تظهر مثلا، في القيم الأخلاقية والإنسانية وفي مشاعر الحب وفي العلاقات الجنسية وفي الروابط العائلية. والغريزة الأخيرة المكتسبة حصريا عند الإنسان من دون الحيوان هي غريزة التدين. وهي ذلك الميل عند الإنسان للبحث عن قوة أكمل منه. هذه الغريزة تجعل منطلقها ذلك الإحساس بالضعف والعجز الذي يشعر به كل إنسان في نفسه. فالموت والأمراض والفشل والتعب أوضاع حاضرة دائما نصب أعيننا لتكريس هذا الاحساس. التاريخ والأحداث الواقعية تثبت أنها أي غريزة التدين قانون يخضع له كل إنسان. الكل – دون أيّ إستثناء – مدفوعون إلى البحث عن كائن أو شيء يقدّسونه، يعينهم على خوض غمار الدنيا ويحتمون به. هذا التقديس يمكن أن يأخذ شكل القرابين والتضحية بالحيوانات تقربا لصنم أو آلهة. وكذلك يمكن أن يأخذ شكل الارتباط المبالغ فيه بمغنّ أو ممثلة، لدرجة القيام بتضحيات لمجرد الإحساس بالقرب أكثر ما يمكن من نجمه المفضّل. ومن الممكن أن تتوجه غريزة التدين إلى حب وعشق غير محدود  للمال او لمجموعة لوحات لرسام مشهور.

والاستجابة لهذه الحاجات العضوية والغرائز لا تكون بإعطائها الحرية في الإشباع، وترك العنان لها دون الرجوع إلى العقل لاختيار طريقة الإشباع. فالنتيجة لمن يتركون لأهوائهم العنان في معترك الحياة لإشباع حاجاتهم العضوية وغرائزهم كما يشتهون واضحة للعيان: تصرفات متطرفة مناقضة للطبيعة الإنسانية، فإدمان شرب الخمر وتعاطي المخدرات هي أمثلة في ترك الهوى والشهوة تتحكم. والمثلية واستغلال الأطفال جنسيا هي أمثلة على ذلك في نطاق إشباع غريزة النوع. وبالنسبة لإشباع غريزة حب البقاء، فهناك وضعيات متطرفة ناتجة عن محاولة الإشباع الخاطئ لهذه الغريزة، من الواضح أنها غير ملائمة للإنسان وتردي به إلى المهالك. فمثلا: يمكن للإنسان أن تسيطر عليه القيم المادية وينبذ القيم الأخرى اللّازمة لتوازنه واستقامة حياته: القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية. بصفة خاصة، عدم التوازن هذا يولّد الأنانية، واستباحة كل الوسائل مثل الدوس على الضعفاء بهدف الثراء. وكذلك غريزة التدين يمكن تحويلها بالمغالطة تحويلا رجعيا، إذا أصبح الشيء المقدّس مجرد نجم مشهور…

فهذه التصرّفات المنحطّة ما هي إلّا نتيجة توهّم الإنسان أنه يمكنه بمفرده تحديد الخير والشرّ في كلّ أفعاله. وهذا لأنه قاس أفعاله قياسًا خاطئًا على الأشياء، فهو يرى أن الطعم الحلو في الشيء يستطيع أن يميزه عن الطعم المالح، لأنّ كلًا منهما ممكن التحديد عن طريق حاسة التذوق، والحسن يميزه في الأشياء عن القبح كذلك، أما في الأفعال فهو لا يستطيع بحواسه أن يتذوق أو يحس بالحسن والقبح فيها كإحساسه بالأشياء، لأن الحكم عليها بالحسن والقبح أو بالخير والشر آت من ظروف واعتبارات خارجة عن الفعل نفسه، ففعل القتل مثلاً، يكون وصفه بالحسن أو القبح بناء على اعتبارات خارجية والظروف المحيطة به، ففي حال قتل المعاهد أو المستأمن، أو قتل المؤمن، يوصف القتل بأنه قبيح، أما القتل دفاعًا عن النفس والعرض، أو في الجهاد في سبيل الله، فيوصف هنا بأنه حسن، مع أن الفعل في الحالتين هو واحد وهو القتل، والإحاطة الكاملة بهذه الاعتبارات الخارجية لإصدار الحكم الصحيح عليها هي مستحيلة للإنسان لأن عقله محدود، فهو قاصر عن إدراك خفايا الأمور كلها والحكم عليها، فالحكم بالحسن والقبح والخير والشر إذًا هو خارج حقل الحواس وخارج الإلمام العقلي الكامل. وكما سبق أن رأينا في الجزء الخاص بالتفكير، فإنه عندما نصف شيئا خارج العالم المحسوس، وبدون الاعتماد على معطيات موثوقة، فإنّه لا يمكن تفادي الوقوع في الخيال والخطأ. فالعقول البشرية لا يمكن أن تتوافق كلها على مساندة الرأي بأنّ الإعدام يجب تطبيقه على المجرمين، وأنّها عقوبة عادلة، ولكنّهم في المقابل يلتقون على كلمة سواء بأن الإجّاص له طعم حلو وأنّ العشب لونه أخضر. ولهذا السبب، وفي حياتنا اليومية، نلاحظ أنّ ما كان حكمنا عليه بأنّه خير في الماضي، أصبح شرا اليوم والعكس صحيح. وما هو مقبول هنا، مجرّم في مكان آخر.

فالحكم البشريّ على الحسن والقبح والخير والشر هو بالفعل لا يعتمد عليه. فكيف سيتسنى الإشباع بالطّريقة الصحيحة للحاجات العضوية والغرائز، إذا كان الإنسان لا يستطيع أساسًا أن يميز تمييزًا صحيحًا وشاملًا بين ما يصلح له وما يضرّه؟  وبما أنّه صار جليا عدم قدرتنا الإستجابة بالكيفية المثلى لغرائزنا وحاجاتنا العضوية، فلم يبقَ لنا إلا طريق واحد يحوز على ثقتنا التامة والمطلقة: وهو الإنصياع لخالقنا، فخالقنا يعرفنا معرفة مطلقة ويعلم جيدا ما يصلح لنا وما لا يصلح. وهذا يمثل أحد الأسباب الأساسية التي جعلتنا نبحث بشغف الذي يتطلع للعثور على أعظم كنز في الكون، عن خطاب الله تعالى الذي أتى به الرسل.

وعلى هذا، لو أن كثيرا من الأشخاص ادّعوا أنهم يحملون رسالة من الله. فكيف سنعرف الصادق من الكاذب؟ وحتى لا ندخل في متاهة، كان من الأصلح الاهتمام بدراسة النصوص المنسوبة إلى الله خاصة. والعمل يتلخص في التمييز بين ما هو قادم من الخالق وما هو مجرد إنتاج بشريّ. فما هو قادم من الله سيتّسم بالعلم المطلق والإبداع بعكس النص البشري الموصوم بصفات الكائن الضّعيف، غير القادر على الإلمام ولا التنبؤ بأي شيء. وبناء على ذلك، لا بد أن نجد في الأعمال البشرية آثار النقصان وعدم الكمال: فالأخطاء والتناقضات صفة إنسانية.

أمّا النصّ الإلهي: فلا يمكن أن يشوبه أي أثر من الضّعف.

والقرآن يعلن أنه كلام الله وأنّه لا بدّ منه لإرشاد المخلوق البشري. فلندرس هذا الكتاب الذائع الصيت ومبرّرات هذا الإعلان لنحدّد إذا كان فعلا يتّسم بالصّفة الإلهية.