مقالات فكري

لغز العسكر وكيف حلَّه رسول الله

حين فازت جبهة الإنقاذ فى الجزائر بالانتخابات البرلمانية بنسبة تزيد عن 80 بالمائة، انقلب عليها العسكر بقيادة الجنرال خالد نزار، وانتهى الأمر بالزج بعشرين ألفًا من الجبهة في السجون، ونشبت حرب راح ضحيتها 200 ألف من الأبرياء. وكذلك حين وصل حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في تركيا بدأت معركة تكسير العظام بين العسكر والنظام الجديد مازالت فصولها تدور حتى الآن. أما في مصر فلم يمكث برلمان الثورة أكثر من أربعة أشهر حتى بادر المجلس العسكري بحله عن طريق القضاء العلماني الموالي له والمعادي للحركات الإسلامية التي كانت تسيطر على البرلمان وقتئذ، وأصبح حسب الرؤية العسكرية في حكم الماضي وكأن شيئاً لم يكن. واليوم حدث ما هو أكبر من ذلك: انقلاب على رئيس منتخب (حسب ديمقراطيتهم التي يؤمنون بها)، وزجٌّ بقيادات الإخوان في السجون. وهكذا تبدو العلاقة بين التغيير والعسكر غامضة وتترك أسئلة كثيرة؛ هل العسكر بطبيعتهم ضد التغيير؟ أم أنه لغز العسكر؟

إن أي نظام سياسي يحتاج إلى قوة تحميه، والأنظمة السياسية في العالم الإسلامي، التي قامت على أنقاض دولة الخلافة، لم تخرج من رحم الأمة وإنما أوجدها الاستعمار، وما كانت هذه الأنظمة لتبقى لولا وجود قوة مادية تحميها، وقد عمل الكافر المستعمر الذي أوجد هذه الأنظمة على كسب ولاء قادة الجيوش في عالمنا الإسلامي، حتى يستطيع الإبقاء على أنظمته التي أقامها، وبهذا الولاء أصبحت هذه الجيوش حامية للأنظمة العلمانية بالرغم من أن أبناءها هم أبناء الأمة ويدينون بعقيدتها.

والتغيير الذي يحدث لهذه الأنظمة لا يخرج عن نوعين؛ الأول هو التغيير الشكلي الذي يذهب بحاكم ويبقى على النظام العلماني أي على نفس المنظومة الفكرية، وما أكثر الانقلابات التي قامت في العالم الإسلامي على هذه الشاكلة وأدت إلى تغيير الحكام. أما النوع الثاني فهو التغيير الذي يذهب بالنظام كله والأساس الذي قام عليه ويوجد مكانه نظام الإسلام، وهذا النوع من التغيير هو الذي يشكل صعوبة، وينتهي دائماً بالصدام وعادة ما يُحسم الأمر لصالح العسكر بحكم أنهم أصحاب القوة المادية، ولهذا فإن أي محاولة للتغيير تصطدم بالعسكر لا تخرج عن كونها نوع من أنواع العبث.

فهل يعني هذا أن تستسلم الأمة ولا تهُب من أجل تغيير النظام العلماني وإزالته؟

إن الوقوف مع سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وقفة تشريعية تجيب لنا عن هذا التساؤل بوضوح، فرسول الله قد حسم هذه المسألة قبل 14 قرناً من الزمن، حيث عمل على التغيير لإقامة نظام جديد يقوم على أساس الإسلام، وبالرغم من وجود أهل القوة أيضاً في زمنه، إلا أنه أنجز طريقه وأقام دولته، فماذا فعل رسول الله؟

إن الفهم الدقيق لسيرة المصطفى يبين بجلاء أنه عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على كسب أهل القوة في المجتمع لفكرته ليكونوا هم القوة التي تحمي عملية التغيير بل وتقودها إلى إقامة دولة الإسلام، وتظهر السيرة بجلاء أن طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم للنصرة من القبائل قد قام على أساس نصرة الإسلام، عن عقيدة وإيمان، وليس من أجل مصالح آنية. فقد روت كتب السيرة أن الخزرج لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيعة العقبة الثانية قال العباس بن عبادة الأنصاري أخو بني سالم بن عوف: (يا معشر الخزرج هل تدرون على ما تبايعون هذا الرجل؟) قالوا: (نعم)، قال: (إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا أُنهكت أموالكم مصيبةً وأشرافكم قتلاً أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له، بما دعوتموه إليه على نكهة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة)، قالوا: (فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف! فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفّينا؟) قال صلى الله عليه وسلم: (الجنة)! قالوا: (ابسط يدك!) فبسط يده فبايعوه.

وجاء في سيرة ابن هشام في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في البيعة: “ثُمّ قَال: أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ. قَالَ: فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ ثُمّ قَالَ: نَعَمْ وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ (نَبِيّاً) لَنَمْنَعَنّك مِمّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا، فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللّهِ، فَنَحْنُ وَاَللّهِ أَبْنَاءُ الْحُرُوبِ وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ وَرِثْنَاهَا كَابِرًا (عَنْ كَابِرٍ)” فتمت بذلك كلمة الله وقامت للإسلام دولته.

نعم هذه هي سيرة المصطفى تبين كيف تعامل مع أهل القوة في عصره، فلم يصطدم بهم، بل عمل على كسبهم للإسلام، ثم توجيه قوتهم لتكون هي الحامية للدولة الإسلامية الأولى التي أقامها في المدينة عن يقين وإيمان، وليس من أجل مصالح آنية من منصب أو جاه. حدث هذا بعد أن كسبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لفكرته، فكان إيمانهم بالإسلام وتأثرهم بعقيدته هو المحرك لهم، فقاموا بحماية الدولة وذادوا عنها بأنفسهم وأموالهم، قربة لله وطمعاً في رضاه.

لهذا فإن أي حركة تسعى للتغيير الحقيقي دون أن تكسب ولاء الجيوش لفكرتها ستفشل بكل تأكيد، ويعتبر عملها مهما سمى وعظم عبثاً سيؤدي حتماً إلى الصدام، فالأصل أن تعمل الحركات والأحزاب الساعية للتغيير على كسب الجيوش لفكرتها كما تعمل على كسب الجماهير.

والسؤال الآخر الذي يطرح نفسه: ما هي الفكرة التي يمكن أن تجذب قادة الجيوش وتحررهم من التبعية التي هم غارقون فيها؟

إن الفكرة الوحيدة القادرة على كسب ولاء الجيوش وقادتها هي الفكرة الإسلامية، بشرط أن تصل إليهم مبلورة في مشروع حقيقي، تجعل من يُخاطَب بها قادر على أن يضع يده ليتلمس صحتها وقدرتها على صياغة منظومة جديدة تعيد للأمة كرامتها وتخلصها من التبعية للكافر المستعمر.

لذلك إن أردنا أن نحل لغز العسكر فما علينا إلا أن نحمل مشروعاً مبدئياً يقوم على عقيدة الإسلام، يقدم هذا المشروع تصوراً كاملاً عن الدولة بجميع أجهزتها ودستورها وعلاقتها بغيرها من الدول ورسالتها التي يجب عليها أن تحملها، ثم نخاطب بهذا المشروع أهل القوة من جيوش الأمة، بعدما يكون لهذا المشروع رأياً عاما منبثقاً عن إدراك أن الالتزام بهذا المشروع هو عبادة لله.

فقط بالمشروع الإسلامي الحقيقي نستطيع أن نحرر العسكر من التبعية للغرب ونحولهم إلى حماة للعقيدة، والذي يجب أن يكون هو الأصل. فقط بالإسلام يمكن أن نمتلك قلوب وعقول كل أبناء الأمة حين نخاطبهم خطاباً قوياً مؤثراً، فإن كان رسول الله قد كسب غير المسلمين إلى الإسلام ثم حول قوتهم لقوة تحمي الإسلام، فمن باب أولى أن يكون كسب أبناء المسلمين أسهل!

إن العقبة الكبرى أمام كسب العسكر هو منافستهم في تبعيتهم للغرب، وهذا يحدث حين يقوم المشتغلون بالتغيير بالإندماج فيما يُسمى بالنظام الدولي والقبول بالحفاظ على العلاقات مع الطرف الآخر في الصراع: (أمريكا)، والقبول بكل ما تمخض عن هذا النظام الدولي الغاشم من اتفاقيات لم تقم أساساً إلا من أجل الحيلولة دون التغيير الحقيقي، فمن يسير في هذا الطريق فهو يحافظ على النظام العلماني شاء أم أبى، ويحافظ على علاقته بأعداء الأمة مهما كانت نواياه، وإذا كان هذا هو الحال، فالطبيعي أن يرى العسكر منه معادياً لهم في نفوذهم، لأن الصراع سيتحول إلى منافسة في إرضاء الغرب والسير في منظومته.

إن تحييد الإسلام عن الصراع سيزيد الهوة بين أبناء الأمة الواحدة، ويجب ألا ننسى أن الأجهزة الأمنية لم يصل مستواها في البطش والإجرام إلى هذه الدرجة إلا بعد غياب الإسلام، أي في ظل النظام العلماني. والإسلام هو الذي سيعيد لمن يعملون في هذه الأجهزة الأمنية كرامتهم وعزتهم المفقودة، والتي انتزعها منهم الحكام العملاء الذين حولوا هؤلاء من رجال أمن وحماية إلى رجال رعب وقمع وإرهاب.

فليشمر الجميع عن سواعدهم ويتمسكوا بالمشروع الإسلامي الحقيقي الذي يجمع أبناء الأمة ولا يفرقهم، لنحول العسكر من قتلة مجرمين إلى أبطال حقيقيين كما كان أسلافهم، وبهذا نكون قد حللنا لغز العسكر الذي حيَّر الجميع وحله رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل 1435 عام.

﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (الأنعام 153)

بقلم الدكتور/ ياسر صابر، كاتب ومفكر إسلامي