مقالات فكري

إدارة الأزمات وحماية الأمة والدولة اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم الجزء الأول: غزوة الأحزاب

أ- مقدمة:

تعيش أمتُنا اليومَ أوضاعاً دوليةً صعبةً ومعقدة، تهيمنُ عليها قوى الكفرِ والاستعمار من دول الغرب الرأسمالي. وكلّما نشأت أزمةٌ في بلاد المسلمين، أو حصل صراعٌ دولي بين الدول الغربية على الثروات والمصالح في بلاد المسلمين، يتساءل العاملون للإسلام: كيف يمكن لنا الدفاع عن الأمة الإسلامية وحماية الدولة الإسلامية الناشئة في ظلّ الظروف الدولية القائمة؟ وكيف سيتسنّى لنا مغالبة الدول الغربية العريقة في المكر والاستعمار؟ وكيف سنتمكن من إزالة العقبات التي سيقيمها النظام الدولي أمام حمل رسالة الإسلام عالمياً لهداية الشعوب والأمم؟

يقول الله تعالى في سورة الأحزاب: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا) [الأحزاب 46].

ونحن، استرشاداً بهذه الآية الكريمة، سنحاول في كلمتنا هذه استلهام النور من ذلك السراج المنير، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي أضاء على الدنيا برسالة رب العالمين، لا سيما ونحن نعيش اليوم أشد العصور ظلمةً وظلماً، وذلك لنستهدي بسيرته – عليه السلام -، المُؤيَّدِ بالوحي من ربّه، لنرى كيف أدار الصراع العقدي والسياسي مع أعداء الإسلام في عصره، وكيف عالج الأخطار الداخلية والخارجية التي واجهت الأمة والدولة، وكيف تغلّب على الصعاب، وأزال العقبات من أمام دعوة الإسلام، محلياً وإقليمياً، فمهّد بذلك الطريق لصحبه الكرام لمصارعة الدول الكبرى حينذاك، مملكتي فارس والروم.

سنستعرض في هذا المقام موقفين من سيرة النبي الكريم عليه وعلى آله السلام. الموقف الأول هو موقعة الأحزاب، والتي شكّلت أول خطرٍ حقيقيّ هدّد كيان الدولة الإسلامية الحديثة من قبل تحالف قِوى الشرك في الخارج مع يهود بني قريظة في الداخل. والموقف الثاني هو موقعة الحديبية، والتي شكّلت أول مبادرة سياسية، كان لها الأثر الأكبر في إضعاف قوى الشرك وعزلها، وفتحِ آفاقٍ واسعةٍ للدعوةِ الإسلاميةِ إقليمياً ودولياً.

ب- موقعة الأحزاب:

كانت المعارك بين المسلمين وغيرِهم، من المشركين واليهود، تأخذ الشكل التقليدي بين طرفين. واستمرّ ذلك لسنوات عدة، إلا أنه في موقعة الأحزاب واجه المسلمون خِطة جديدة، تمثلت بتشكيل الأحلاف بين أعداء الأمس، اليهود والمشركين، ضد دولة الإسلام. لقد شكّلت موقعةُ الأحزاب منعطفاً في الحرب على الإسلام، وتطوّراً خطيراً في نشوء تحالف ضمّ كيانات متناقضة في العقائد وطرق العيش، اجتمعت في حلف ضد عدوها المشترك: الإسلام ودولته. وقد كان لهذا التطوّر الخطير شأنٌ عظيم، أنزل الله فيه آياتٍ كريماتٍ في سورة (الأحزاب)، وصفت الأزمة وصفاً دقيقاً شاملاً، وعالجتها عقدياً وتشريعياً، ثم حدّدت للمسلمين الخطوط العريضة لكيفية التصدي لها والتغلب عليها.

الخطة:

قام يهودُ بني النضير بتحريضِ العربِ ضد رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم -، انتقاماً منه بعد أن أجلاهم وبني قَيْنُقَاع عن المدينة. فذهب زعماءُ بني النضير مع زعماءِ بني وائل في وفد إلى قريش، وأبلغوهم أنّ قبائلهم تستعدّ لقتالِ المسلمين، لكنها تنتظر مشاركةَ قريش، وأنّ بني قريظة في المدينة تنتظر قريشاً ليميلوا معهم، فينقضوا عهدهم مع النبي ويقطعوا المدد عن المسلمين. ثم اتصلوا بغطفان وبني مُرَّة وبني فزارة وأشجع وسليم وبني سعد وبني أسد، يؤلّبونهم على حرب المسلمين والثأرِ منهم. وهكذا استطاع اليهودُ أن يؤلّبوا العربَ على حرب الرسول – عليه السلام -، فاجتمع عدد من قبائل العرب في حلفٍ لغزو المدينةِ بقيادة قريش، في جيش قَوَامُه عشرةُ آلافِ مقاتل. وجاءت الأحزابُ فحاصرت المدينة، وهاجم المشركون الخندق ونجحت بعض خيلِهم في اقتحامه، وأعظموا نيرانهم لتخويف المسلمين، ونقض بنو قريظة عهدهم مع رسول الله، وقطعوا المدد عن المسلمين، وألّفوا كتائب تُغِير عليهم من فوق الوادي ومن جنب المدينة، وبدأوا ينزلون من حصونهم إلى منازل المدينة لإرهاب أهلها، كما نشط المنافقون في المدينة في دعايتهم ضد الرسول، يشكّكون في وعده بنصر الله، ويثبطون المؤمنين عن القتال. فبلغ الفزعُ بالمسلمين مبلغاً عظيماً، وزُلزلوا زلزالاً شديداً. وقد وصف الله – سبحانه – حال المسلمين العصيبة، حيث قال – عز وجل -: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) [الأحزاب 10-11].

اشتدّ الكربُ على المسلمين وعمّ الفزعُ بينهم، وكان الرسول – عليه السلام – على أعظمِ الثقةِ بنصر الله له، وأنه – سبحانه – سيظهر الإسلام على الدين كلّه، ولو كره المشركون. وبدأ النبي الكريم يفكر في مواجهة هذا الخطر الداهم، ومعه ثلةٌ من الرجال المؤمنين، أمرهم ربُّهم أن يتخذوا نبيّه قدوةً حسنة، كما في الصلاة والعبادة، فكذلك في الدعوة والجهاد، وفي الفكر والسياسة. قال – سبحانه – في سورة الأحزاب، مخاطباً المؤمنين، بعد أن بيّن لهم حال المنافقين وإرجافهم: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب21].

وهكذا، عندما علم الرسولُ – عليه السلام – بخبر اجتماعِ قريش وقبائل العرب لغزو المدينة، وضع خِطةَ دفاعٍ محكمةٍ لمواجهةِ الأحزاب، ولحماية الأمة والدولة الناشئة، كان أهمُّها الإجراءاتُ التالية:

1- قرر – عليه السلام – أن يتحصّن في المدينة ولا يخرج لملاقاة الأحزاب خارجها.

2- أمر المسلمين بحفر الخندق على طول مدخل المدينة شمالا، وقد شارك – عليه السلام – بنفسه في حفر الخندق، وحرّض المؤمنين على العمل بأقصى سرعة، فتم حفرُ الخندق في ستة أيام.

3- عالج – عليه السلام – معنويات المسلمين الضعيفة بتحريك العقيدة في نفوسهم، وأثار فيهم الشوقَ إلى الجنة ونعيمٍ لا يفنى، كما بشرهم بسيادة الدنيا ووراثة الدول العظمى فبشرهم بكنوز كسرى وفتح قصور الشام.

4- حصّن – عليه السلام – بيوتَ المسلمين الواقعة قرب الجبهة، وأخلى المساكن الواقعة وراء الخندق، ونقل النساء والأطفال إلى المساكن المحصّنة.

5- جمع – عليه السلام – جيشاً قَوامُه ثلاثةُ آلافِ مقاتل.

6- اتّخذ – عليه السلام – إجراءاتٍ تضمن عدمَ تسرّبِ المعلومات وانتشار الإشاعات والدعاية بين المسلمين، كي لا يحصل اضطراب يضعف من عزيمتهم.

هذه أهمُّ الإجراءات التي اتخذها – عليه السلام – داخلياً، حيث جهّز الأمة على مختلف الأصعدة. أما خارجياً فقد وضع النبيّ الكريم مع نُعَيْم بن مسعود خِطةً تهدُفُ إلى تثبيط الكفار عن القتال وبذر النزاع بين الحلفاء، خاصة بين يهود بني قريظة وقريش، زعيمة الحلف. فقد ذهب نُعَيْم إلى بني قريظة، التي لم تكن تعلم بإسلامه، وأخبرهم أن قريشاً وغطفانَ لن تصمدا في حصار المسلمين في ظل الأوضاع القائمة، وقد يرجعون إلى مكة ويخذلون يهودَ في حربهم ضد محمد، وفي هذه الحال سينتقم النبيُّ منهم لنقضهم العهد. ونصح نُعَيْم اليهودَ بعدم القتال بجانب الأحزاب، إلا إذا حصلوا على رهائن من زعماء الحلف، ليضمنوا عدم خذلان قريش وغطفان، فأخذت بني قريظة برأي نُعَيْم.

وذهب نُعيم بعدها إلى قريش، وأخبرهم أن بني قريظة ندِموا على نقض عهدهم مع الرسول، وأنهم يحاولون تصحيح خطئهم وكسب ثقة النبي بجلب بعض أشراف قريش ليقطع رؤوسهم. ونصحهم أن لا يبعثوا ليهود أحداً من رجالهم كرهائن. ثم ذهب إلى غطفان وأخبرهم نفس الخبر.

 وبذلك نجح نُعيم في إثارة الشكوك لدى العرب تجاه يهود، فأرسل أبو سفيان إلى كعبٍ بن أسد، زعيمِ بني قريظة، رسالةً يطالبه فيها ببدء القتال، فاعتذر اليهود بسبتهم، وطلبوا إرسال رهائن حتى يطمئنوا على مصيرهم. فتيقّن أبو سفيان من كلام نُعَيْم، وتشاور مع غطفان فإذا هي تتردّد في قتال محمد. وأرسل الله عليهم مطراً غزيراً وريحاً عاصفاً اقتلعت خيامهم، فقرر المشركون الرحيل.

وبعد رحيل الأحزاب حاصر الرسولُ – عليه السلام – بني قريظة، بعد أن نقضوا عهدهم معه وتآمروا للقضاء على المسلمين. فقتل المقاتلة منهم وقسم أموالهم وسبى الذراريَ والنساء. قال تعالى واصفاً حال المسلمين حين أصبحوا على انهيار الحصار، ورحيل الأحزاب، وتحقّقِ وعدِ اللهِ بالنصر: 

(وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا) [الأحزاب: 22-27].

وبهزيمة الأحزاب انتهت آخر محاولة جديّة قامت بها قريش للقضاء على الإسلام ودولته، وبالقضاء على بني قريظة قُضِيَ على آخر قبيلة من قبائل يهود داخل المدينة وحولها، ما كان له أثرٌ كبيرٌ في تركّز الدولة الإسلامية وحمايتها من الأخطار الداخلية، وتماسك المجتمع الإسلامي وانسجامه عقدياً وتشريعياً وسياسياً.