مقالات فكري

خواطر إيمانية (8): لماذا أنا موجود؟

قبل الانتهاء من طرح الحلِّ للعقدةِ الكبرى عند الإنسان بالعقيدة الاسلامية، وذلك بالأدلّةِ القطعيةِ، نريد التذكير بالمسلك الذى اتبعناه والنتائج التي توصلنا إليها.

في أول الأمر، صغنا الأسئلة الأساسية في هذه الكلمات البسيطة والجامعة المانعة “من أين أتيت، ولماذا أتيت، وإلى أين أذهب؟”. ثم شدّدنا على الأهمية القصوى للإجابة الدقيقة والمستفيضة عن هذه الأسئلة، فالبحث العميق الذي سنخوضه يفرض علينا إدراكا واضحا في الذهن لمفهوم الحقيقة: أي أنه لا تكون الفكرة حقيقة إلّا إذا كانت مطابقة للواقع. ثم عيّنّا بعض السبل المتشعِّبة والمؤدية إلى متاهات، والتي تحيد بالباحث عن الحقيقة بعيدا عن الهدف المنشود: الخيال والتخمين والعواطف والبيئة. وأنّ الجواب الفعّال للأسئلة الأساسية لا بد أن يأتي من طريق الفكر المستنير. فتطرّقنا للتّعريف بالفكر ومكوناته الجزئية، ثم الفكر المستنير وما يميزه عن المستويات الفكرية الأخرى. وكان لا بدّ من توضيح حول موضوع اليقين والنسبية، لأنّ هذه الأفكار كانت منبعا لكثير من الالتباس عند العديد من الأشخاص. وبعد الانتهاء من هذا العمل التمهيدي، دخلنا في صلب الموضوع. نقطة البداية لبحثنا العملي كان ذلك النظام المسيِّر للمادة، والذي كان شديد التعقيد وبديعا في نفس الوقت. لا أحد يمكنه إنكار وجوده، وهو حاضر في كل المستويات لتأطير هذا الإنسان الذي يعيش في الكون. وبعد بيان استحالة أن يكون النظام رهينا للصدفة، توصلنا إلى أنّه نشأ عن إرادة عليا مطلقة العلم. عندها ورد التساؤل عن هوية هذه الإرادة العليا، وبما أن الإنسان والكون والحياة أشياء عاجزة أساسا، ولا يمكن أن يكونوا لا سببا في وجود أنفسهم ولا القوانين التي تسيرهم. بل على العكس، لا يمكنهم إلّا الانصياع إلى القوانين الكونية الناشئة عن إرادة بدون شك خارجة عن العالم المحسوس. فالواقع مليء بالشواهد التي تدلّ على هذه الإرادة. وهي إرادة الخالق الواحد الأزلي الواجب الوجود العليم بكل شيء. فلمّا تساءلنا عن الغاية من الحياة والمصير بعد الموت، وجدنا أنفسنا عاجزين عن الإدلاء بأجوبة قاطعة لاقتصار فكرنا على العالم المحسوس. وكان الحل الوحيد الممكن هو أن يرشدنا الله عن طريق رسله. فكانت الحاجة للرسل من هذه الزاوية. ومن ناحية أخرى، فالله الذي يعلم كل شيء عن الإنسان في أدقّ تفاصيل تكوينه، هو الوحيد الذي يمكنه إعطاء الإنسان الطريقة الصحيحة التي يشبع بها مجموع حاجاته وغرائزه. وهذا هو السبب الثاني الذي يجعلنا نحتاج إلى الرسل.

بقي أن نعرف الرسالة الأصليّة من الخالق. وكان القرآن الذي تحدى وأعجز أكثر العرب إتقانا للّغة العربية، أن يأتوا بمثله، وهو بالتأكيد في شكله الأدبي، كان المعجزة الشّاملة والخالدة، وهو إذًا كلام الله الخالق سبحانه وتعالى.

والآن، بما أننا أثبتنا، بشكل قاطع، أن القرآن كلام الله، لا بد أن يصبح هذا الكتاب هو المرجع لإكمال الأجوبة على أسئلتنا الأساسية من ناحية، وتنظيم حياتنا على أساس هذه الأجوبة من ناحية أخرى. فلا يمكننا أن نسمح بمرور الرحلة القصيرة التي منحت لنا في الحياة، بدون الاهتمام الكافي بالأسئلة التي هي في غاية الأهمية. ولا يمكننا كذلك أن نسمح لأنفسنا بإشباع حاجاتنا وغرائزنا بطريقة فوضويّة حسب أهوائنا، حتى لا يصيبنا الخسران. فيجب من الآن وإلى آخر يوم في العمر أن يكون هدف وجودنا في هذه الدنيا حاضرا في أذهاننا باستمرار. فالهدف من وجودنا ليس تحصيل القدر الأوفر من المتعة الجسدية في هذه الحياة، كما يتصور الكثيرون.

ولكن، هذا الهدف يتلخص في قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ سورة الذاريات الآية 56.

هذه الآية الجامعة تعبر بكل وضوح بأنّ الهدف الوحيد الذي من أجله خلقنا هو عبادة الله. والأكيد أن في هذه العبادة تكمن السعادة المطلقة والرضا والطمأنينة الأبدية. وفي نفس الوقت، لو أخذت هذه الآية بمفردها لوضعتنا أمام التساؤل عن المعنى الدقيق للعبادة. هل المقصود هنا العبادات المفروضة كالصلاة والصوم والحج إلى آخره…؟ هل العبادة تعني بصفة أولى تبنِّي القيم الأخلاقية العالية، أو أنّ العبادة تكمن في إنفاق الأموال على الأعمال الخيرية؟ هل يجب على العابد أن يعزل نفسه عن العالم فيعيش كالكاهن في الأديرة؟ والوحيد القادر على الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها الكثير هو الله سبحانه وتعالى. وبما أنه بيّن لنا أنّ الغاية الوحيدة من وجودنا هي عبادته وحده، فإنه جلّ جلاله فصّل لنا الطريقة التي بها تقبل منا هذه العبادة. وهذه العبادة ليست محصورة في صلاة وصوم، بل هي شاملة لكل مناحي الحياة، فأنت تعبد الله سبحانه بطاعتك إياه والامتثال لأحكامه في كل أمور حياتك، والعبادة العظمى له تعالى تكون بحمل رسالته إلى العالمين فيدخلون في دين الله أفواجاً، وهذه هي الإجابة الصحيحة والشاملة عن سؤال “لماذا أتيت؟”، فأنت أتيت إلى هذه الدنيا وأصبحت مسلماً لتنشر الخير والهداية في ربوع الدنيا بحمل دين الإسلام! قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾

أما السؤال الأخير “إلى أين أذهب؟” فإنّ الله يبيّن لنا الإجابة كذلك.

فهو سيجازي بالسعادة المطلقة والأبدية في الجنّة الذين يعبدونه بالطريقة التي فرضها سبحانه وتعالى العليم بكل شيء. أما الذين لا يؤمنون بآيات الله الخالق ورسالته، فسيعيشون الشقاء الأبدي في عذاب جهنم والعياذ بالله، حفظنا الله أجمعين من هذه العاقبة.

فإذا أردنا السعادة في الحياة الدنيا وفي الآخرة وجب علينا دراسة الشريعة الإلهية في القرآن والسنة وما أرشدا إليه والتقيد بها، وحمل هذه الرسالة إلى الناس لنكون بحق شهداء عليهم يوم القيامة.